فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا}
اعلم أن هذا نوع آخر من مخازي المنافقين، وهو أنه كلما نزلت سورة مشتملة على ذكر المنافقين وشرح فضائحهم، وسمعوها تأذوا من سماعها، ونظر بعضهم إلى بعض نظرًا مخصوصًا دالًا على الطعن في تلك السورة والاستهزاء بها وتحقير شأنها، ويحتمل أن لا يكون ذلك مختصًا بالسورة المشتملة على فضائح المنافقين بل كانوا يستخفون بالقرآن، فكلما سمعوا سورة استهزؤوا بها وطعنوا فيها، وأخذوا في التغامز والتضاحك على سبيل الطعن والهزء، ثم قال بعضهم لبعض: هل يراكم من أحد؟ أي لو رآكم من أحد؟ وهذا فيه وجوه: الأول: أن ذلك النظر دال على ما في الباطن من الإنكار الشديد والنفرة التامة، فخافوا أن يرى أحد من المسلمين ذلك النظر وتلك الأحوال الدالة على النفاق والكفر، فعند ذلك قالوا: {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} أي لو رآكم أحد على هذا النظر وهذا الشكل لضركم جدًا؟ والثاني: أنهم كانوا إذا سمعوا تلك السورة تأذوا من سماعها، فأرادوا الخروج من المسجد، فقال بعضهم لبعض: {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} يعني إن رأوكم فلا تخرجوا، إن كان ما رآكم أحد فاخرجوا من المسجد، لتتخلصوا عن هذا الإيذاء.
والثالث: {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} يمكنكم أن تقولوا نحبه، فوجب علينا الخروج من المسجد.
قال تعالى: {ثُمَّ انصرفوا} يحتمل أن يكون المراد نفس هربهم من مكان الوحي واستماع القرآن، ويجوز أن يراد به، ثم انصرفوا عن استماع القرآن إلى الطعن فيه وإن ثبتوا في مكانهم.
فإن قيل: ما التفاوت بين هذه الآية وبين الآية المتقدمة وهي قوله: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إيمانا}.
قلنا: في تلك الآية حكى عنهم أنهم ذكروا قولهم: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إيمانا} وفي هذه الآية حكى عنهم أنهم اكتفوا بنظر بعضهم إلى بعض على سبيل الهزؤ، وطلبوا الفرار.
ثم قال تعالى: {صَرَفَ الله قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} واحتج أصحابنا به على أنه تعالى صرفهم عن الإيمان وصدهم عنه وهو صحيح فيه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: عن كل رشد وخير وهدى، وقال الحسن: صرف الله قلوبهم وطبع عليها بكفرهم، وقال الزجاج: أضلهم الله تعالى، قالت المعتزلة: لو كان تعالى هو الذي صرفهم عن الإيمان فكيف قال: {أنى يُصْرَفُونَ} وكيف عاقبهم على الانصراف عن الإيمان؟ قال القاضي: ظاهر الآية يدل على أن هذا الصرف عقوبة لهم على انصرافهم، والصرف عن الإيمان لا يكون عقوبة، لأنه لو كان كذلك، لكان كما يجوز أن يأمر أنبياءه بإقامة الحدود، يجوز أن يأمرهم بصرف الناس عن الإيمان.
وتجويز ذلك يؤدي أن لا يوثق بما جاء به الرسول.
ثم قال: هذا الصرف يحتمل وجهين: أحدهما: أنه تعالى صرف قلوبهم بما أورثهم من الغم والكيد.
الثاني: صرفهم عن الألطاف التي يختص بها من آمن واهتدى.
والجواب: أن هذه الوجوه التي ذكرها القاضي ظاهر أنها متكلفة جدًا، وأما الوجه الصحيح الذي يشهد بصحته كل عقل سليم، هو أن الفعل يتوقف على حصول الداعي، وإلا لزم رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح، وهو محال.
وحصول ذلك الداعي ليس من العبد وإلا لزم التسلسل، بل هومن الله تعالى.
فالعبد إنما يقدم على الكفر إذا حصل في قلبه داعي الكفر، وذلك الحصول من الله تعالى، وإذا حصل ذلك الداعي انصرف ذلك القلب من جانب الإيمان إلى الكفر، فهذا هو المراد من صرف القلب وهو كلام مقرر ببرهان قطعي وهو منطبق على هذا النص، فبلغ في الوضوح إلى أعلى الغايات، ومما بقي من مباحث الآية ما نقل عن محمد بن إسحق أنه قال: لا تقولوا انصرفنا من الصلاة، فإن قومًا انصرفوا صرف الله قلوبهم، لكن قولوا قد قضينا الصلاة، وكان المقصود منه التفاؤل بترك هذه اللفظة الواردة فيما لا ينبغي، والترغيب في تلك اللفظة الواردة في الخير، فإنه تعالى قال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} [الجمعة: 10]. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا}.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

.المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: {نَظَرَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ}:

فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فِيهَا فَضِيحَتُهُمْ، أَوْ فَضِيحَةُ أَحَدٍ مِنْهُمْ جَعَلَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ، يَقُولُ: هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ إذَا تَكَلَّمْتُمْ بِهَذَا فَيَنْقُلُهُ إلَى مُحَمَّدٍ؟ وَذَلِكَ جَهْلٌ مِنْهُمْ بِنُبُوَّتِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ يُطْلِعُهُ عَلَى مَا شَاءَ مِنْ غَيْبِهِ.
الثَّانِي: إذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فِيهَا الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ نَظَرَ الرُّعْبِ، وَأَرَادُوا الْقِيَامَ عَنْهُ، لِئَلَّا يَسْمَعُوا ذَلِكَ، يَقُولُونَ: هَلْ يَرَاكُمْ إذَا انْصَرَفْتُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ ثُمَّ يَقُومُونَ وَيَنْصَرِفُونَ، صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ.

.المسألة الثَّانِيَةُ: [في كراهة قول: انْصَرَفْنَا مِنْ الصَّلَاةِ]:

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُكْرَهُ أَنْ يُقَالَ انْصَرَفْنَا مِنْ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ قَوْمًا انْصَرَفُوا فَصَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَلَكِنْ قُولُوا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ.
وَهَذَا كَلَامٌ فِيهِ نَظَرٌ، وَمَا أَظُنُّهُ يَصِحُّ عَنْهُ، فَإِنَّ نِظَامَ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: لَا يَقُلْ أَحَدٌ انْصَرَفْنَا مِنْ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ قَوْمًا قِيلَ فِيهِمْ: ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مَقُولًا فِيهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ.
وَقَدْ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ الْبُسْتِيُّ الْوَاعِظُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيُّ سَمَاعًا عَلَيْهِ، يَقُولُ: كُنَّا فِي جِنَازَةٍ، فَقَالَ الْمُنْذِرُ بِهَا: انْصَرِفُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ فَقَالَ: لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ انْصَرِفُوا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي قَوْمٍ ذَمَّهُمْ: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وَلَكِنْ قُولُوا: انْقَلِبُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي قَوْمٍ مَدَحَهُمْ: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}.

.المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}:

إخْبَارٌ عَنْ أَنَّهُ صَارِفُ الْقُلُوبِ وَمُصَرِّفُهَا وَقَالِبُهَا وَمُقَلِّبُهَا رَدًّا عَلَى الْقَدَرِيَّةِ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ قُلُوبَ الْخَلْقِ بِأَيْدِيهِمْ وَجَوَارِحَهُمْ بِحُكْمِهِمْ، يَتَصَرَّفُونَ بِمَشِيئَتِهِمْ، وَيَحْكُمُونَ بِإِرَادَتِهِمْ، وَاخْتِيَارِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ أَشْهَبُ: مَا أَبْيَنَ هَذَا فِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْقَدَرِ: {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ}.
وقَوْله تَعَالَى لِنُوحٍ: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِك إلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ}.
فَهَذَا لَا يَكُونُ أَبَدًا وَلَا يَرْجِعُ وَلَا يُزَالُ. اهـ.

.قال السمرقندي:

قوله: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل سورة براءة، فيها عيب المنافقين، {نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ}؛ ويتغامزون ويقولون فيما بينهم: {هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ} من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا رآهم أحد قاموا وصلوا، وإن لم يرهم أحد لم يصلوا.
قال تعالى: {ثُمَّ انصرفوا}، يعني: خرجوا من المسجد، ويقال: انصرفوا من الإيمان.
{صَرَفَ الله قُلُوبَهُم} عن الإيمان، وعزل قلوبهم عن الفهم بخروجهم من المسجد وانصرافهم عن الإيمان، ويقال: هذا على وجه الدعاء واللعن، كقوله: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله ذلك قَوْلُهُم بأفواههم يضاهئون قَوْلَ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قاتلهم الله أنى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30]؛ ويقال: هذا على معنى التقديم، ومعناه صرف الله قلوبهم، لأنهم انصرفوا عن الإيمان.
ويقال: هذا على معنى التقديم، ومعناه صرف الله قلوبهم، لأنهم انصرفوا عن الإيمان.
{بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} أمر الله تعالى. اهـ.

.قال الثعلبي:

{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} فيها عيب المنافقين وتوبيخهم {نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ} كلام مختصر تقديره نظر بعضهم في بعض وقالوا أو أشاروا {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} إن قمتم فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد وإن علموا أحدًا يراهم قاموا فانصرفوا {ثُمَّ انصرفوا} عن الإيمان بها، وقال الضحاك: هل يراكم من أحد يعني أطلع أحد منهم على سرائركم مخافة القتل قال الله: {صَرَفَ الله قُلُوبَهُم} عن الإيمان بالقرآن {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} قال ابن عباس: لا تقولوا إذا صليتم: انصرفنا من الصلاة فإن قومًا انصرفوا فصرف الله قلوبهم، لكن قولوا قضينا الصلاة. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا} الضمير في قوله: {بعضهم} عائد على المنافقين، والمعنى وإذا ما أنزلت سورة فيها فضيحة أسرارهم {نظر بعضهم إلى بعض} على جهة التقريب، يفهم من تلك النظرة التقرير: هل معكم من ينقل عنكم؟ هل يراكم من أحد حين تدبرون أموركم؟ وقوله تعالى: {ثم انصرفوا} معناه عن طريق الاهتداء. وذلك أنهم حين ما يبين لهم كشف أسرارهم والإعلام بمغيبات أمورهم يقع لهم لا محالة تعجب وتوقف ونظر، فلو اهتدوا لكان ذلك الوقت مظنة ذلك، فهم إذ يصممون على الكفر ويرتبكون فيه كأنهم انصرفوا عن تلك الحال التي كانت مظنة النظر الصحيح والاهتداء، وابتدئ بالفعل المسند إليهم إذ هو تعديد ذنب على ما قد بيناه، وقوله: {صرف الله قلوبهم} يحتمل أن يكون دعاء عليهم، ويحتمل أن يكون خبرًا أي استوجبوا ذلك {بأنهم قوم لا يفقهون} أي لا يفهمون عن الله ولا عن رسوله، وأسند الطبري في تفسير هذه الآية عن ابن عباس أنه قال: لا تقولوا انصرفنا من الصلاة فإن قومًا انصرفوا فصرف الله قلوبهم، ولكن قولوا قضينا الصلاة.
قال القاضي أبو محمد: فهذا النظر الذي في هذه الآية هو إيماء، وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال: نظر في هذه الآية في موضع قال. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وإذا ما أُنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض}
قال ابن عباس: كانت إذا أُنزلت سورة فيها عيب المنافقين، وخطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرَّض بهم في خطبته، شق ذلك عليهم، ونظر بعضهم إلى بعض يريدون الهرب، يقولون: {هل يراكم من أحد} من المؤمنين إن قمتم؟ فإن لم يرهم أحد، خرجوا من المسجد.
قال الزجاج: كأنهم يقولون ذلك إيماءً لئلا يعلم بهم أحد، {ثم انصرفوا} عن المكان، وجائز عن العمل بما يسمعون.
وقال الحسن: ثم انصرفوا على عزم التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به.
قوله تعالى: {صرف الله قلوبهم} قال ابن عباس: عن الإيمان.
وقال الزجاج: أضَلَّهم مجازاة على فعلهم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ}
{ما} صلة، والمراد المنافقون؛ أي إذا حضروا الرسول وهو يتلو قرآنًا أنزل فيه فضيحتهم أو فضيحة أحد منهم جعل ينظر بعضهم إلى بعض نظر الرعب على جهة التقرير؛ يقول: هل يراكم من أحد إذا تكلمتم بهذا فينقله إلى محمد، وذلك جهل منهم بنبوّته عليه السلام، وأن الله يطلعه على ما يشاء من غيبه.
وقيل: إن {نَظَرَ} في هذه الآية بمعنى أنبأ.
وحكى الطبريّ عن بعضهم أنه قال: {نَظَرَ} في هذه الآية موضع قال.
قوله تعالى: {ثُمَّ انصرفوا} أي انصرفوا عن طريق الاهتداء.
وذلك أنهم حينما بين لهم كشف أسرارهم والإعلام بمغيّبات أمورهم يقع لهم لا محالة تعجّبٌ وتوقّف ونظر، فلو اهتدوا لكان ذلك الوقت مظنة لإيمانهم؛ فهم إذ يصممون على الكفر ويرتبكون فيه كأنهم انصرفوا عن تلك الحال التي كانت مظنة النظر الصحيح والاهتداء، ولم يسمعوا قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم سماع من يتدبره وينظر في آياته: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الصم البكم الذين لاَ يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22].
{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
قوله تعالى: {صَرَفَ الله قُلُوبَهُم}.
فيه ثلاث مسائل:
الأولى قوله تعالى: {صَرَفَ الله قُلُوبَهُم} دعاء عليهم؛ أي قولوا لهم هذا.
ويجوز أن يكون خبرًا عن صرفها عن الخير مجازاةً على فعلهم.
وهي كلمة يدعى بها؛ كقوله: {قَاتَلَهُمُ الله} والباء في قوله: {بِأَنَّهُمْ} صلة لـ {صرف}.
الثانية قال ابن عباس: يكره أن يقال انصرفنا من الصلاة؛ لأن قومًا انصرفوا فصرف الله قلوبهم، ولكن قولوا قضينا الصلاة؛ أسنده الطبريّ عنه.
قال ابن العربي: وهذا فيه نظر وما أظنه بصحيح؛ فإن نظام الكلام أن يقال: لا يقل أحد انصرفنا من الصلاة؛ فإن قومًا قيل فيهم: {ثُمَّ انصرفوا صَرَفَ الله قُلُوبَهُم}.
أخبرنا محمد بن عبد الملك القَيْسِيّ الواعظ حدّثنا أبو الفضل الجوهري سماعًا منه يقول: كنا في جنازة فقال المنذر بها: انصرفوا رحمكم الله! فقال: لا يقل أحد انصرفوا فإن الله تعالى قال في قوم ذمهم: {ثُمَّ انصرفوا صَرَفَ الله قُلُوبَهُم} ولكن قولوا: انقلبوا رحمكم الله؛ فإن الله تعالى قال في قوم مدحهم: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} [آل عمران: 174].
الثالثة أخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أنه صارف القلوب ومصرفها وقالبها ومقلّبها؛ ردًا على القدرية في اعتقادهم أن قلوب الخلق بأيديهم وجوارحهم بحُكمهم، يتصرفون بمشيئتهم ويحكمون بإرادتهم واختيارهم؛ ولذلك قال مالك فيما رواه عنه أشهب: ما أبين هذا في الرد على القدرية {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ}.
وقوله عز وجل لنوح: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} [هود: 36] فهذا لا يكون أبدًا ولا يرجع ولا يزول. اهـ.